منذ اختطافهما، تضاربت الأنباء بشأن الجهة الخاطفة، وأسباب الاختطاف، ثم حول مصيرهما، وسرت إشاعات عن مقتل أحدهما. وتنشر «الأخبار» تفاصيل غير معروفة حول حقيقة اختطاف المطرانين يوحنا إبراهيم وبولس يازجي، وآخر مستجدات القضية
ثلاثة عشر شهراً مضت على اختطاف المطرانين يوحنا إبراهيم (متروبوليت حلب للسريان الأرثوذكس) وبولس يازجي (متروبوليت حلب والإسكندرون وتوابعهما للروم الأرثوذكس). حُكي الكثير عن الحادثة، وبقي كثير من ملابساتها غامضاً، وعلى رأسها الجهة الخاطفة وأسباب الاختطاف، ومستجدات القضية.
القصة بدأت بوقوع حادثة الاختطاف، كما هو معروف، في الثاني والعشرين من نيسان 2013. كان المطران يوحنا إبراهيم يزور المنطقة الحدودية، في إطار محاولات تحرير الكاهنَين المخطوفين ميشال كيال وإسحاق معوض، وقد باءت جهوده في ذلك اليوم بالفشل، بسبب إخلاف الخاطفين موعداً كان مضروباً لتسليمهما. أما المطران بولس يازجي فكان قد أنهى فترة «اعتكاف وتأمل» في السويدية (الواقعة في لواء إسكندرون). واتفق مع المطران إبراهيم على أن يلتقيا ذلك اليوم في معبر باب الهوى الحدودي، ليعودا معاً إلى حلب، وهذا ما حصل.
انطلقت سيارة المطران إبراهيم عائدةً إلى حلب، تقلّ المطرانين، يرافقهما فؤاد إيليا (مرافق المطرانين)، ويتولى قيادة السيارة فتح الله كبود (سائق المطران إبراهيم).
تجاوزت السيارة بشكل روتيني حاجز كفر داعل (غربي مدينة حلب) التابع نظريّاً لـ«الجيش الحر»، والذي تتناوب عليه عمليّاً مجموعتان؛ الأولى «جماعة عبدو زمزم»، وجميع أفرادها من قرية بشقاتين (جنوبي غربي كفر داعل). وهي مجموعة سيئة السمعة، تُسمى في المنطقة «كتيبة الحرامية». أما المجموعة الثانية فهي الأقوى، والتي قامت باختطاف المطرانين في ذلك اليوم. (تعمل جماعة عبدو زمزم تحت إمرة المجموعة الخاطفة، بشكل غير مباشر).
بعد اجتياز حاجز «زمزم»، دخلت سيارة المطرانين منطقة تماس بين سور البحوث العلمية وأبنية ضاحية الراشدين (جنوب غرب حلب). وهي منطقة يُشرف عليها قنّاص منطقة البحوث العلمية (من الجيش السوري). لا يرصد القنّاص المنطقة بالكامل، فثمة أجزاء منها محجوبة عنه بفعل بعض الكتل والأبنية. وعلى نحو مفاجئ، قامت سيارة رباعية الدفع باعتراض سيارة المطرانين، التي اضطرّ سائقها إلى التوقف. وعلى الفور ترجّل أربعة مسلحين «بملامح قوقازية» من السيارة، شهر ثلاثة منهم أسلحتهم (ومن ضمنها قنابل يدوية)، وتولى الرابع مهمة جرّ سائق المطران ورميه خارجَ السيارة. وكان واحدٌ من المسلحين على الأقل يتكلم العربية الفصحى. دارت محادثةٌ سريعة، ثم قام أحد المسلحين بجرّ فؤاد إيليا خارج السيارة، وتولى قيادتها، يرافقه مسلّحان آخران، فيما المطرانان في المقعد الخلفي. لتنطلق السيارتان عبر طريق ترابي بين المباني، وبعيداً عن مرمى القناص.
انطلق فتح الله كبود (سائق المطران) في اتجاه سور «البحوث العلمية»، بين أبنية جمعية الراشدين، ليشاهد بعدها مصاباً بطلق في الرأس أرداه قتيلاً.
أما فؤاد إيليا فتمكن بعد أقل من نصف ساعة من ركوب «ميكروباص» عابر، عائداً في اتجاه «حاجز زمزم». (كانت المنطقة في ذلك الوقت مدخلاً لمدينة حلب من ذلك الاتجاه. وبالتزامن مع حادثة الاختطاف كان هناك رتل طويل من السيارات ذهاباً وإياباً، لكنّ أحداً لم يجرؤ على التدخل). أكد المسلحون على الحاجز لإيليا أن سيارة المطرانين قد عادت في اتجاههم منذ قليل، وشهر مسلحون داخلها أسلحتهم، فأفسح مسلحو الحاجز لها الطريق (في حقيقة الأمر كانت جماعة زمزم متعاونة مع المجموعة الخاطفة، وبالأحرى كانت تنفذ أوامرها).
من اختطف المطرانين؟
توجّه إيليا نحو «قيادات الجيش الحر» في تلك المنطقة، فأكد هؤلاء أن «لا علمَ لديهم بالحادثة، بل إنهم يستنكرونها»، ثمّ أرسلوا دوريات تجوب المنطقة. وبعد قليل، أخبروا إيليا بأن «السلطة الأكبر في منطقة الاختطاف هي لعصبة الأنصار».
تمكن إيليا سريعاً من مقابلة الشيخ نعيم، وهو «نائب أمير عصبة الأنصار» وقائدها الميداني في تلك المنطقة. لكن الأخير أكّد عدم وجود صلة بينه وبين العملية، وأنه لا يمتلك أي معلومات عن مسلحين من جنسيات غير عربية في المنطقة، لتتوجّه أصابع الاتهام إلى المدعو «أبو البنات». وهو داغستاني كان يقود «كتيبةً» مكونة من 200 قوقازي، يقيمون معسكراً في منطقة تل عقبرين (ريف إدلب)، ويربطه تحالفٌ قوي بأبو عمر الكويتي، زعيم «جماعة المسلمين» (جند الخلافة سابقاً).
بعد شهور طويلة، اندلعت الحرب التي شنّتها مجموعات مسلحة عدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، أدّت المعارك (كما بات معروفاً) إلى انسحاب «داعش» من كامل الريف الشمالي لحلب، ووقع عدد من عناصره في قبضة خصومه. ونتيجة اعترافات عدد من هؤلاء، اتّضح أن المجموعة الخاطفة لم تكن سوى «عصبة الأنصار»، وأن الشيخ نعيم كان يكذب.
من هي «عصبة الأنصار»؟
هي مجموعة مسلّحة مستقلّة ظاهريّاً. يقع مقرّها الأساسي في ترمانين (تابعة لمحافظة إدلب، وتبعد حوالى 30 كلم عن مدينة حلب)، ويتزعمها الشيخ صالح الأقرع الملقب بأبو سعيد. كانت المجموعة تدين بالولاء السري لـ«جبهة النصرة»، قبل أن تُبدّل ولاءها لاحقاً وتبايع «داعش» بشكل سري أيضاً. ولأنها لم تُشهر «مبايعتها» علانية، فقد بقيت في معزل عن معارك التنظيم مع باقي المجموعات، ولم يهاجمها أحد.
كانت مناطق سيطرة «العصبة» حتى وقت قريبٍ تبدأ من الحاجز الأول مباشرة بعد البحوث العلمية. وحافظت على مركزها المتقدم في مزارع جمعية رابطة المحاربين القدماء قرب قرية عنجارة. تضم «العصبة» في صفوفها حوالى 200 مسلّح سوري، تدربوا في معسكر «الشيخ سليمان». وهو المعسكر الذي تدربت فيه معظم طواقم «النصرة» و«داعش»، كما تضم 30 مقاتلاً تركمانستانيّاً. (يصطلح السكان على إطلاق اسم الشيشانيين على جميع المسلحين المنحدرين من دول جنوب الاتحاد السوفياتي السابق).
اتّضح أن المجموعة الخاطفة لم تكن سوى «عصبة الأنصار»
يوضح مصدر كان على ارتباط بـ«العصبة» أنّ أحد أبرز قياديي «عصبة الأنصار» كان قد وقع في قبضة الجيش السوري خلال إحدى المعارك. ولم تُفلح محاولات استعادته بأي شكل من الأشكال. ويقول المصدر لـ«الأخبار» إنّ «قياديي العصبة» اعتقدوا أن اختطاف أي صيد ثمين يمكن أن يجبر السلطات السورية على مبادلته بـ«القائد الأسير». وخلصوا إلى أن «أقوى عامل ضغط على النظام هو اختطاف النصارى الكفار المؤيدين». قبل حادثة اختطاف المطرانين بأيام، قامت «العصبة» باختطاف أشخاص تابعين لمنظمة «الصليب الأحمر»، قرب «عالم السحر» على طريق حلب ــ دمشق الدولي. أحيطَت الحادثة بالكتمان حينها، وأفلحت شخصيات مرتبطة بـ«الجيش الحر» في إقناع «الأنصار» بإطلاق سراح المخطوفين، لأنهم «أفراد منظمة دولية، وليسوا نصارى مؤيدين». بعدَها بأيام، تم اختطاف المطرانين، لكنّ الخاطفين فوجئوا بالضجة الكبيرة التي أثارتها العملية. (يؤكد المصدر أن العصبة لم تكن تدرك أن أهمية المطرانين كبيرة إلى هذه الدرجة، وكان قادتها يظنون أن أهميتهما لا تتجاوز أهمية عدد من الكهنة الذين سبق أن اختطفوا في مرات سابقة).
ما هو مصير المطرانين؟
شعر قادة «العصبة» أنهم أقدموا على عمل خطير، بما يتجاوز قدرتهم على تحمل تبعاته، فلجأوا إلى قيادات «داعش» لطلب المشورة. وجاء الرد سريعاً، يحمل أوامر بنقل المطرانَين من المنطقة فوراً، وبسرية تامة، وتسليمهما لـ«داعش».
تم نقل المطرانين مرات عدة، قبل أن ينتهي بهما المطاف في مدينة الرقة، أبرز معاقل «داعش». وخلافاً لما أُشيع عن مقتلهما، ثم عن مقتل أحدهما، تؤكد معلومات «الأخبار» أن المطرانَين ما زالا بخير، وفي قبضة «داعش»، ونُقلا أخيراً إلى منطقة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي، وعلى مقربة من الحدود التركية.
... «عمرة» في قطر
في الوقت الراهن، تُعتبر «كتائب نور الدين زنكي» المجموعة الأقوى، والأكثر عديداً في المناطق الممتدة بين قبتان الجبل، ودارة عزة، وعنجارة، ومعارة الأرتيق، وصولاً إلى الراشدين و«جبهة الجوية». وفي نيسان الماضي، قام زعيمها الشيخ توفيق شهاب الدين بزيارة سرية لقطر. وتمت تغطية الزيارة بإشاعة أنه «سافر لأداء العمرة». وفور عودته أعلن انفصاله ومجموعته عن «جيش المجاهدين»، وأطلق على مجموعته اسم «حركة نور الدين زنكي»، بدلاً من «كتائب». ثم انضم إلى «حركة حزم» المموّلة قطرّياً، والمدعومة أميركيّاً. (راجع «الأخبار»، العدد 2300). كذلك سارع إلى مهاجمة «عصبة الأنصار»، بذريعة خلاف قديم حول «غنائم معمل أدوية الوطنية». وسارعت «العصبة» إلى الانضمام إلى «جيش المجاهدين» الذي غادره «الزنكيون» في محاولة للاحتماء بـ«المجاهدين»، خاصة بعد أن تمكن «الزنكيون»، وسط تعتيم إعلامي، من القبض على عدد كبير من عناصر «العصبة»، وبشكل خاص العناصر التركمانستانيين (وسط مصير مجهول حتى الآن لـ«أمير عصبة الأنصار» الشيخ صالح الأقرع)، في خطوة قد تفتح الباب أمام مفاوضات محتملة، بينهم وبين «داعش»، بغية تسليمهم المطرانين، في مقابل تسليم مقاتلي «عصبة الأنصار» لـ«داعش»، ليُصار لاحقاً إلى إعلان تحرير المطرانين بمظلة قطرية. كذلك تؤكد معلومات «الأخبار» أن جهات عدة تخوض جهوداً تفاوضيّة، في محاولات لإطلاق سراح المطرانَين.